مداخلة الزميلة سعيدة شريف أثناء انعقاد الندوة الوطنية حول موضوع “الصحافي الفريلانس بين القانون المؤطر والممارسة المهنية” التي نظمتها النقابة الوطنية للصحافة المغربية بالرباط يوم السبت 30 اكتوبر المنصرم، جاء فيها:
قبل الحديث عن الصحافي الفريلانس الذي تتمحور حوله هذه الندوة الوطنية، التي سعت إلى تنظيمها النقابة الوطنية للصحافة المغربية مشكورة، يجب الإشارة إلى أن الصحافة والإعلام بالمغرب بشكل عام يشهد تراجعا كبيرا على مستوى الممارسة والحقوق المكتسبة، كما أن أوضاع الصحافيين لا تسر بالمرة، فالكثير منهم في عطالة تامة بسبب إغلاق العديد من المؤسسات الإعلامية، أو تحول بعضها إلى المجال الرقمي والاستعاضة عن الصحافيين المهنيين بصناع المحتوى أو المؤثرين أو غيرهم من مستعملي الوسائل الرقمية، في غياب تام لأي تكوبين أو دراية بالعمل الصحفي المهني.
فعلى الرغم من كشف المجلس الوطني للصحافة والنقابة الوطنية للصحافة المغربية لكل هذه الاختلالات، وتشريحها في مختلف التقارير السنوية أو الدورية وبالأرقام الملموسة، فإن مهنة الإعلام في المغرب تشهد ردة كبيرة وتراجعا خطيرا على المستوى المهني والحقوقي، وسط لامبالاة من قبل المسؤولين عن القطاع، وتغول المال والسلطة في الكثير من المؤسسات الإعلامية، حيث أضحت آخر ما يتم التفكير فيه في البلد، وقد أثبتت جائحة كورونا هذا الأمر وبالملموس، لأنه رغم صرف الدولة للدعم الاستثنائي للصحافة، بعيدا عن وصاية أرباب المؤسسات الإعلامية، فإن ذلك لم يمنع من تسريح الصحافيين ومن إغلاق المؤسسات، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن قطاع الإعلام بالمغرب هش بشكل كبير، وبحاجة إلى إعادة الضبط والتقويم، وليس الدعم فحسب.
فإذا كان الصحافي المغربي الذي يعمل بشكل رسمي مع مؤسسات وطنية أو معتمد مع مؤسسات أجنبية، يعاني أثناء ممارسته المهنية من الكثير من المشاكل التي تبدأ من المؤسسة التي يشتغل بها وتمتد إلى الفضاء العام الذي يمارس فيه مهنته المشوبة بالتضييق والحد من حريته، فإن الصحافي الفريلانس بالمغرب، والذي اختار طوعا أو كرها العمل بشكل حر ومستقل، يعاني الأمرين في ممارسته المهنية، والتي سنفصلها في هذه الندوة، ولهذا سيقتصر حديثي في هذه الندوة عن مفهوم الفريلانس بالمغرب، وعن الممارسة المهنية للصحافي الحر وفي ظل أية شروط، وأترك الجانب القانوني والمقارناتي للزميل يونس منصف.
أولا ما معنى الفريلانس؟
يعتبر العمل الحر Freelancingواحدا من أفضل الوسائل التي تضعك مباشرة على الطريق الصحيح نحو الحرية المالية والعمل لحسابك الخاص، ولهذا لجأ إليه الكثير من الناس في السنوات الأخيرة لضمان مدخولهم المادي واستقلاليتهم، حيث أصبح العمل الحر خيارًا شائعًا في سوق العمل ينافس الوظائف التقليدية التي تفرض على الموظّفين العمل لساعات محدّدة تصل إلى 40 ساعة أسبوعيا، في الولايات المتحدة الأمريكية مثلا يعمل أكثر من 50 مليون شخص في مجال العمل الحر، وهذا العدد طبعا قد تضاعف مع جائحة كورونا وخيار العمل عن بعد.
فإذا كان العمل الحر خلال العقود السابقة ملاذا للكثيرين من ضغط الدوام المكتبي، فهو اليوم أصبح وظيفة أساسية والخيار الأوّل للملايين، وذلكلما يوفره من مميزات يمكننا تلخيصها في:المرونة التي تتيح للشخص العمل بحرية وفق برنامجه الخاص، وتحديد ساعات العمل المرغوب فيها، والتي تكون غالبا أقل من ساعات الدوام، والحرية في اختيار مكان العمل الذي يمكن أن يكون من البيت أو المقهى أو المكان الذي يفضله الشخص ويجد فيه راحته، ثم تقليل المصاريف، التي غالبا ما يذهب نصفها في المواصلات.
فالفريلانس أو العمل الحر بشكل عام هو الاقتصاد الذي سيهيمن مستقبلا في العالم، لأن الشباب وجدوا فيه ضالتهم، والمؤسسات تخلصت بفضله من الكثير من الأعباء كالمكاتب والفواتير والضرائب، وغيرها.
والصحافة كغيرها من المهن عبر العالم بدأت تشهد تطورات كبيرة، حيث صار عدد الصحافيين الفريلانس في العالم يفوق عدد الصحافيين العاملين بشكل رسمي وثابت مع مؤسسات معينة، ولهذا تم الاجتهاد في بلدانهم لإيجاد إطارات لهم وقوانين تحميهم، وهو ما نحتاج إليه في المغرب، خاصة مع الثورة الرقمية والتطور التكنولوجي الذي يتيح للصحافي العمل وبيع منتوجه للجهات التي يرى أنها بحاجة إليه.
كما أن العديد من المؤسسات الإعلامية في العالم العربي، وبسبب الظروف الاقتصادية وانخفاض الميزانيات الإدارية، والضغوط السياسية، أصبحت تفضل الصحافي المستقل، لأنه أقل كلفة عن نظيره المتفرغ، لأنه يوفر عليها دفع مستحقات مثل الضمان الاجتماعي، وتعويضات التنقل، والتأمين الصحي.
ومن هو الصحافي الفريلانس؟
الصحافي الفريلانس، حسب التعريف الذي تقدمه العديد من الاتحادات والمنظمات المهتمة بمجال الإعلام وتحديدا “تجمع صحافة الفريلانس بأوروبا”، هو صحافي بالدرجة الأولى يعمل بشكل مستقل وحر، ويقدم خدمة لمؤسسة إعلامية أو مؤسسات متعددة، ويتقاضى عنها تعويضا بشكل حر، ويمكن إطلاق صفة “العمل بالقطعة” على العمل الذي يؤديه، كما يمكن أن يكون “متعاقدا بشكل حر”، ويتقاضى نظير عمله تعويضا شهريا متفقا عليه أو متعاقدا حوله مع المؤسسة الناشرة، أو صفة “المتعاون” مع مؤسسات إعلامية.
والصحافي الفريلانس، الذي يمكن تسميته باللغة العربية بالحر أو المستقل، نوعان: نوع اختار العمل الإعلامي الحر منذ البداية رغم صعوبته، بعيدا عن أية وصاية أو لون سياسي معين، أو توجهات مؤسسية أو خط تحريري بعينه، معتمدا على المهنية والحرفية بالدرجة الأولى، ونوع ثاني لجأإليه مكرها بسبب ظروف العمل الرسمي الصعبة أو استغناء أرباب العمل عن خدماته، ما جعله ينفتح على العمل المستقل والحر والتواصل مع منابر خارج الوطن، خاصة مع الثورة الرقمية وكثرة المواقع، التي أصبحت تفتح المجال لهذا النوع من العمل المهني الصعب الذي ينطوي على الكثير من التحديات.
ويشكل عام فهناك ممارسات مهنية كثيرة يمكن أن تدخل في إطار الفريلانس، ولكن الأساسي فيها أن يكون الممارس صحفيا مهنيا، وليس أي ممارس لمهنة أخرى ويرغب في تزويد دخله من الإعلام لأنه يرى فيه مهنة مربحة، أو يكون عمله يصب فيإطار العمل الصحفي بما فيها التحرير، والإنتاج السمعي البصري، والبرمجة، والتصوير، والمونتاج، والمراسلة، وغيرها من المهن الإعلامية الجديدة التي تدخل في حكم عمل الصحفي الفريلانس.
ولهذا فالتعريف الذي يمكن الاتفاق حوله، هو أن الفريلانس صحافي مهني بالأساس، اختار طوعا أو كراها العمل بشكل حر ومستقل، يقدم خدمة إعلامية لمؤسسات إعلامية وطنية أو دولية، أو مؤسسات متعددة مقابل تعويض مادي متفق حوله إما بعقد مؤقت، أو بنظام القطعة، وهذا النوع من التعاقد يحتاج إلى الضبط وإلى صيغة قانونية تكون ملزمة للصحافي وللمؤسسة التي يتعامل معها، حيث يكون هناك دليل للممارسة المهنية وسقف معين للتعويضات وأجل معقول للحصول عليها.
وماذا عن المغرب؟
بالنسبة إلى المغرب، فالقانون المنظم لمهنة الصحافة يعرف الصحفي الحر كالآتي:
“الصحافي الحر هو كل صحافي مهني يتعامل بناء على طلب من مؤسسة صحافية واحدة أو أكثر يوجد مقرها الرئيسي بالمغرب، وأن يكون أجره الرئيسي من مزاولة مهنة الصحافة ولا يتقاضى أجرا قارا”.
وجاء فيه أيضا أن “الرسامين والمصورين الفوتوغرافيين والمصورين بالميدان التلفزي يعتبرون صحفيين مهنيين، ويدخل في حكمهم أيضا: المساعدون المباشرون في التحرير مثل المحررين المترجمين والمختزلين المحررين ومساعدي المصورين الفوتوغرافيين في الميدان التلفزي، ما عدا وكلاء الإشهار وجميع من لا يقدمون بوجه من الوجوه إلا مساعدة عرضية في هذا المجال”.
وبالنظر إلى هذا القانون المنظم للمهنة ومقارنته مع متغيرات العصر المتسارعة، ودخولنا عالم الرقمنة، وتزايد أعداد الصحفيين الفريلانس بالمغرب، والذين يبلغ عددهم حوالي 110 صحافي وصحافية، حسب إحصائيات المجلس الوطني للصحافة استنادا إلى البطائق المهنية التي قام بإصدارها، يجب إعادة النظر في هذا التعريف، وإعطاء حيز كبير في هذا القانون للصحافي الحر والتفصيل في تعريفه وتحديد عمله، وإفراد باب خاص به كما هو الشأن مع الصحافي المعتمد والصحافي المهني الرسمي.
كما يجب إعادة النظر في شروط تسليم البطاقة المهنية، التي تلزم الصحافي الحر الإدلاء بوثيقة الضريبة المهنيةPatente، وببيان المداخيل المحصل عليها من العمل الصحفي، والتي تكون في الغالب هزيلة جدا، لأن تعويضات الصحافي الحر لا تخضع لأي معايير قانونية ولا لأي مقياس مهني Bareme، بل إلى ما هو متعارف في المهنة من مثل عدد الكلمات بالنسبة إلى الصحافة المكتوبة والرقمية، والدقائق بالنسبة للفيديوهات أو البودكاست وغيره.
وماذا عن ممارسة الصحافي الفريلانس على أرض الواقع؟
وبالرجوع إلى الممارسة المهنية للصحافي الحر على أرض الواقع، فإنها تتم في غياب الشروط الممكنة لممارسة هذا العمل بالمغرب، وعلى رأسها قانون ينظم عمله ويخول له العمل بكل احترام وصون للحقوق، لأن الأكثرية لا تعترف بالإعلام الحر في المغرب، فالصحافي لديهم إما تابع لمؤسسة رسمية عمومية أو يعمل مع جهات خاصة بشكل رسمي، والعمل الحر والمستقل لديهم ضرب من الجنون. لهذا فالصحافي الفريلانس يعاني الأمرين في ممارسته المهنية، فمن جهة فالبطاقة المهنية المسلمة له من طرف المؤسسة الرسمية التي تنظم مهنته لا يعتد بها من طرف أغلب المؤسسات إن لم نقل جميعها، اللهم إلا إذا كان صحفيا مهنيا معروفا وقلما معروفا، فهو لا يحتاج إلى إظهارها إلا في حالات نادرة مع الأمن فقط، من جهة أخرى فإن تلك البطاقة لا تساعده على صون حقوقه وتعويضاته مع الجهات التي يتعامل معها، والتي تفضل في الغالب التعامل معه من دون عقد، فقط عبر التزام أخلاقي قد تفي به أو لا، ما يجعله عرضة للنصب في ممارسته المهنية.
غالبا ما ينظر إلى الصحافي الحر غير المنتسب لأي مؤسسة معينة نظرة دونية ولا يعترفون بعمله، ويمنعونه من ولوج اللقاءات الرسمية كما هو الشأن مع مؤسسات تشريعية كالبرلمان وغيرها، ويمنع من التصوير ويطلب منه دائما الترخيص، هذا مع العلم أن كل هذا يدخل في صميم عمله، وفي المقابل تجد المؤثرين وصناع المحتوى يحتفى بهم وتفتح لهم جميع الأبواب.
غالبا ما يسأل الصحافي الفريلانس عن المؤسسة التي يعمل معها، وحينما يجيب بأنه يعمل بشكل حر، يظهر الاستغراب وعدم القبول لدى الكثيرين، وقد تقفل جميع الأبواب في وجهه، كما لو أن العمل الحر أو المستقل نشاز وغير مقبول.
المشكل في المغرب هو أن العقلية الإدارية والمؤسساتية ما زالت هي المتحكمة، على الرغم من ثبوت فشلها على المستوى الإعلامي. العالم تغير وصار ينظر إلى العمل الحر بمنظار آخر، ونحن ما زلنا نتعامل مع العصر الجديد بالمنظار القديم، وبعقليات لا تواكب التطور الحديث.
لا يتمتع الصحافي الفريلانس بأي تغطية اجتماعية، فلا تأمين صحي لديه، ولا انخراط يمكنه من الضمان الاجتماعي، ولا تقاعد أيضا، هذا في الوقت الذي يسعى فيه المغرب لتأمين الحماية الاجتماعية والصحية للجميع.لهذا نطالب بصيغة تمكن الصحافي من التغطية الاجتماعية، عبر الانخراط في الضمان الاجتماعي بصفة صحافي حر أو فريلانس، وفي منظومة التقاعد أيضا.
الصحافي الفريلانس ليس صحافيا فاشلا، لأنه لم يجد مؤسسة توظفه، أو لم يقبل على نفسه العمل من دون كرامة ولا حتى مهنية، بل هو صحافي اختار العمل بشكل مستقل وحر بعيدا عن بيئة عمل موبوءة قد تسمم جسده، وتقتل حاسة الإبداع لديه.
العمل بشكل حر اختيار صعب، لهذا فالكثير منا يتحمل تبعاته في صمت..
سعيدة شريف
